فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (99):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} [99].
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: {ذِكْراً} لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.
قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله:

.تفسير الآيات (100- 101):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [100- 101].
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: {خَالِدِينَ فِيهِ} أي: في احتماله المستمر: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (102- 103):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [102- 103].
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.
{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} أي: نسوقهم إلى جهنم: {يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عِمْرَان: 106].
وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: {إِنْ لَبِثْتُمْ} أي: في الدنيا: {إِلَّا عَشْراً} أي: عشر ليال.
قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (104):

القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [104].
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي: أعدلهم رأياً: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} ونحوه قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 112- 113]، انتهى.
قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً.
قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به.

.تفسير الآيات (105- 107):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [105- 107].
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: {فَيَذَرُهَا} أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: {قَاعاً} أي: سهلاً مستوياً: {صَفْصَفاً} أي: أملس: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} أي: نتوءاً يسيراً.

.تفسير الآية رقم (108):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [108].
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: {لا عِوَجَ لَهُ} أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره.
في شروح الكشاف: هذا كما يقال: لا عصيان له، أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} أي: صوتاً خفيّاً.

.تفسير الآية رقم (109):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [109].
{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي: قبل قوله.
والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.
قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة.

.تفسير الآية رقم (110):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [110].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية.

.تفسير الآية رقم (111):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [111].
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.
ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي: خسر.

.تفسير الآية رقم (112):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [112].
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً} أي: نقص ثواب: {وَلا هَضْماً} أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته.

.تفسير الآية رقم (113):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عربيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [113].
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عربيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: الكفر والمعاصي بالفعل: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى.

.تفسير الآية رقم (114):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [114].
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16- 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.
وهذا- كما قال الزمخشري- متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (115):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [115].
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: {فَنَسِيَ} أي: العهد: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله:

.تفسير الآيات (116- 117):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [116- 117].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك،مع المحافظة على الفاصلة.

.تفسير الآيات (118- 119):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [118- 119].
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس.
قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى.
لطيفة:
قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول:
كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ** ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ

ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل ** لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ

فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة، وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها.
على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.

.تفسير الآيات (120- 121):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [120- 121].
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أي: من أكل منها خلد ولم يمت: {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا} أي: يلزقان: {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: {فَغَوَى} أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ.